الموضوع

مدونة الشاعر زهير شيخ تراب

ادبية شعرية خاصة

الخميس، 12 نوفمبر 2015

قراءة في قصيدة (شكرا دمشق) للشاعر العربي الكبير عبد الرزاق عبد الواحد بقلم زهير شيخ تراب


لم تكن سنيّ العمر التي ناهزت الثمانين عاماً تمر خالصة للسعادة والهناء, ولا هي سهلة القياد مطواعة لأحلامه وأمانيه. كما كان يطوع حروف العربية لقصائده التي تحاك بخيوط الذهب الصافي .
لقد مرت عليه الأيام قاسية ثقيلة الرحى. على الرغم من مرورها مر السحاب في غمضة عين كأنه عود ثقاب ما لبث أن اضاء حتى خبا. ليجد نفسه شيخا هرما كأنه لم يرَ من سنيّ الفتوّة والشباب إلا ما خطته اليراعة من حبر على أوراق الذاكرة .

جرت عليه الهموم تترى من كل حدب وصوب. يطرق الهمّ ابوابه في كل لحظة وقد غادر فيها كثير ممن مروا في حياته ولو لمحة من بصر, وبقي وحيدا, كأنه دخل بقعة ضوء ليجد فيها الظلام الدامس.
تلك كانت بالنسبة له امثولة الحياة , عود ثقاب يشعل ثم ينطفئ ليترك الشاعر حائرا في متاهات العمر متسائلا إلى اين نحن نذهب:

الرُّوحُ عـُودُ ثـُقـابٍ، عـُمرُهـا نـَفـَقٌ 
فـَهـَل أضاءَ بـِمـا أشـعـَلـتـَهُ الـنـَّفـَقُ؟ 
أم سَوفَ تـَخرُجُ لا تـَدري على بَـلـَج ٍ 
أبـوابـُهُ ، أم عـلى لـَيـل ٍسـَتـَنغـَلـِقُ !

لكن رغم ما لاقاه الشاعر من اسى وحزن, كاد  يلجئه لليأس والقنوط  انبرت ببهائها وعطائها وسخائها دمشق لتهب له الامل وحسن الختام بعد السابعة والسبعين من السنين المتمردة في وجه الشاعر فكانت الجناح الذي يطير به واسرجت له نجوما ينطلق بها الى المجد والالق والتفاؤل بأن الشام للعراق حتى يشرق الفلق:
شـُكرا ًدِمَشـقُ..مَنـَحتِ الرُّوحَ أجنِحَة
لـِكـَي تـَتيـه َ،وإنْ ألوى بـِهـا الـرَّهـَقُ 
في آخِر ِالعـُمر ِأسـرَجتِ النـُّجومَ لـَهـا 
وَقـُلـتِ طـِيـري إلـَيـهـا فـَهيَ تـَأتـَلـِقُ 
وَفي انتـِظارِكِ زَهـْوُ الـشـَّـام ِأجمَعـُهُ 
شـُكرا ًدِمَشقُ..فِداكِ الرُّوحُ والحَدَقُ ! 
وَهَـبْـتِها بَعـدَما ضـاقَ الـزَّمانُ بـِهـا 
مَجـدا ً بألـفِ جـَنـاح ٍفـيـهِ تـَنطـَلـِقُ 
وَقـُلتِ لِلسـَّبْع ِوالسـَّبعـين ِلا تـَهـِنِي 
عِراقـُكِ الشـَّامُ حتى يُشـرِقَ الفـَلـَقُ

وبدا الشاعر مبتهجا سعيدا وهو يفخر ببغداد الناصعة بالضياء بما اسدت لها دمشق من آصرة حب واخاء فقد عادت ينابيعه ثرّة واخضوضر الخصب فيها فعاد الامل بأن العروبة لم تزل ناصعة في دمشق.. وأن صلاح الدين مازال ينجب احفادا متمسكين بعهده ورافعين لواءه مرفرفا ينشر النور فقد فتحت دمشق صدرها لاستقبال أهلها من العراق أصحاب بيت لا ضيوف:
بَعـَثـتِ أنـتِ بـِهِ في يأسـِهِ أمَلا ً 
أنَّ الـعـروبـَة َلم يـَبـرَحْ بـِهـا رَمَقُ
وأنَّ قـَبرَ صَلاح ِالـدِّين ِما خَفـَتـَتْ 
أضـواؤهُ ، فـَبـِهـا مِـن دِفـْـئـِهِ ألـَقُ 
وأنَّ يَـوما ًسـَـيـأتي أنـتِ غـُـرَّتـُـهُ 
وَفيكِ سَيفُ صَلاح ِالدِّيـن ِيُمتـَشـَقُ !
وما فتيء عبد الرزاق عبد الواحد يشكر دمشق ويهيم بها عشقا وهوى فهي الملاذ والمأوى لمن فرّ بدمه من محرقة الغزو ليجد حضنا دافئا فيها:

نـَهواكِ واللهِ أمَّا ًأرضَعَـتْ أمَما ً 
فـَكـُلـُّهُم بـِشـَذا أذيالـِهـا عَـلـِقـُوا ! 
نـَهـواكِ يا آمَنَ الـدُّنيـا على دَمِنـا 
مِن بَعدِ ما كلُّ مَن خاضُوا بهِ غَرِقوا

ويسدي الشاعر معذرة الى دمشق فقد بحّ صوته من النداء وعجز عن الردع والنصح ,لما لم يصخ العرب الى دعوته بأن هذه دمشق لا تستحق أن تهدر وترمى حتى بوردة في حاضرة العرب وهي التاريخ والحضارة والثقافة . وقد رأى ان من ينتهبون امنها و واستقرارها هم أهل واشقاء . ضاع فيهم ما لم يضع في الذئب لأهله فله حدود لا يقربها اذا افترس ولكنهم تعدوا ما لم يتعداه الضواري بنزيف دمشق . ورغم ذلك لم يزل الياسمين فيها يزهر كل حين ليرى ان جميع الأرض ستزلق الى الهاوية والياسمين باق ليحاسب من ابق عن غياث الشام:

وأنتِ يا دُرَّة َ الـتـَّاريخ ِشـاخِصَة ٌ 
وَشاخِصٌ فـيكِ هذا الضَّوءُ والعـَبـَقُ 
وَشاخِصٌ ياسـَمينُ الشـَّام ِ أجمَعـُهُ 
طـُهْرا ًيُراقِـبُ كيفَ الأرضُ تـَنزَلِـقُ 
فـَتـَسـتـَحيلُ يَـبـابـا ً كلُّ بَهـجَـتـِهـا 
لِيَحكـُمَ النـَّاسَ مَن خانـُوا ومَن فـَسَقـُوا !

ولا غرو إن استرسل الشاعر في مدح دمشق فهي كما تستحق من فيض شعور صادق من ابن عربي بار بما يحمله من قيم يعربية اصيلة ودماء صافية نقية تعرف أن الحق لن يهزم وأن المجد لن يقهر وأن دمشق الى ابد الابدين ركن الأرض الذي اذا مار انهارت على آخرها فالطوفان لن يترك شيئا الا ويمحقه, إن أشرفت شمس الشرق على الشفق دمشق لن تذوي,  لكنها لن تكون الا منارة متألقة تهدي النور للعالم أجمع

شـَمسَ الـثـَّـقافـَةِ هـذا الـعـام..مَعـذِرَة ً 
يـَبـقى سـَـنـاكِ مَدى الأعـوام ِ يأتـَلـِقُ 
تـَبقى ثـُقـوبـُهُمُ السـَّوداءُ ، ما بَـلـَغـَتْ 
مِنَ الـسـَّوادِ ، إذا مَسـَّـتـْكِ تـَنصَعـِقُ ! 
هيَ النـُّبوءَة ُ..شمسُ الشـَّرق ِآخِرُ ما 
يَـبقى إذا لـَفَّ هذا العـالـَمَ الغـَسَـقُ ! 
وآخِرُ الأرض ِعِندَ الشـَّرق ِسَوفَ يـُرى 
إنْ غـَيـَّبَ العالـَمَ الطـُّوفانُ والغـَرَقُ !

تلك نبضات القلب الدافئ والاحساس المرهف نسجها الشاعر قصيدة عصماء من درر الشعر وعيونه كرمى لعيون دمشق . فجاءت على ابدع مايكون الشعر وانسالت جدولا رقراقا بألفاظها الجزلة ومعانيها الرقيقة التي تأسس لحب لا يفتر وتماهٍ لا ينفصم بين الحبيب وحبيبه . لقد اقطع الشاعر من معين فكره قطعة أدبية رائعة. فقليل ما يقال بها مهما اسهبت في السرد وتفننت في الوصف فقد كان ما فيها جامعا مانعا من البلاغة بشتى فصولها والبيان كاجمل ما يكون والشعور الصادق النابع من قومية حقة ووطنية فذة .
رحم الله شاعرنا الكبير عبد الرزاق عبد الواحد واجزل عطاءه من نبع الكوثر بما ترك من الجمان واللؤلؤ كنزا وذخرا للشعر العربي بشكل عام وللعراق على وجه الخصوص . فهو من مدرسة الفحول والرعيل العملاق .بل هو مدرسة لمن سيكتب القريض من بعده والله من وراء القصد.

زهير شيخ تراب دمشق سورية 12/ 11/ 2015


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

صورة

صورة
المؤلف